المدُن الفاضلة بين الحقيقة والخيال الزيارة الأربعينية إنموذجًا

عمار عليوي الفلاحي

 

 

 

 

منذ قرونٍ خلت، وثمـّةَ فلاسفة ومفكرون، غربيون وصولاً لمن ينحدر من المجتمع المُسلم يراود خيالهم فكرة بناء المدينة الفاضلة أو الفردوس الأرضي حتى أستوطنت تلكم المنى الأماكن القصّية من أنفسهم لبناء المدينة الفاضلة سعيًا لتحقيق السعادة وشيوع العدالة ، فقدموا لها صور مختلفة، مكتملة الالوان والظلال والزوايا فمنهم من سلك الإتجاه الديني ، وغيرهُ وضعها في النمط الفلسفي ، وغيره من ضمَّـنَـها في قالب القصة الخيالي أمثال ذلك كتاب السياسة لأرسطو ، والجمهورية لإفلاطون ، ومدينة الشمس لكامبانيللا مرورًا بالنموذج العربي لهذه الشاكلة والتي قدمها الفارابي بعنوان _أراء اهل المدينة الفاضلة ، وصولاً الى محور مقالنا والمتمثلة _يوتوبيا _للعالم المفكر الإنكليزي توماس مور ، الذي قدم مدينته مختلفًا عن الذين قدموا مدنهم سالفة الذكر ، حيث أن مور لم يقدّم عالمه المثالي وفق رؤى مجردة ، أو عرض لنظريات مما يجب عليه أن يكون فردوسه الأرضي ، بل بلور وبشكل أدبي مميز صوراً لجزيرة ادعى انها حقيقة صادفها الكاتب أثناء رحلاته ، كما إتسمت يوتوبيا صبغة واقعية بما حملته من آثار عصرها المعاش ، فمقابل ماقدم توماس دولته المثلى ، كذلك قدم صور قاتمة عن منغصات ذلك العصر ، وبين مواطن القهر والاستبداد ، كنتيجة حتمية لمآلاتِ نظم الحكم والحياة الاجتماعية وقتذاك ، ولعل مميزات العمل الكلاسيكي الذي أضفته يوتيوبيا ، كونها لا تختزل على معالجات مشاكل عصرها أو غيره فحسب ، بل هي صالحة لمجمل العصور التي عاشها او يعيشها الإنسان ، ولشدة رواجها ترجمت للغات عدة ثلاث ترجمات انكليزية ، منتصف الستينات ، ومن ثم ترجمة يابانية وإيطالية واسبانية وفنلدية ، ولعل منعها فترة من الزمن في روسيا من قبل الأقاصرة دليل إزدرائها الشديد للأجهزة الحاكمة وقتذاك الامر الذي جعل مني إتخاذها مدرجًا للإقلاع نحو مدينة رسمتها التضحيات الجسام، فشمرت عن ساعديها التصورات،
ولاشك في إن ماتقدم من مدن باستثناء جزئيات من اليوتيوبيا ، كانت ضرباً من ضروب الخيال ، لكننا نجد إن الفارق في مدينة _الملحمة المجيدة _ جسدت جميع معالمها على أرض الواقع.. بل إنها تخطت بمعطياتها الفاضلة حواجز تلكم ، حيثُ إننا لم تقم على الإنسان الفاضل بالفطرة فقط ، بل صنعت من غير الفاضل فاضلاً ، فثمة من هم مغلولةً أيديهم الى أعناقهم ، أو أقل بسطًا في طبائعهم وجدناهم أيديهم مبسوطة كل البسط ، في البذل لإرساء التكافل في هذا الفردوس الأرضي ، وكذلك الإنصهار التام للذات ، فإصبحت تلكم المزايا ممزوجة بشخصيتهم والمفارقة لايرجون من عنائهم شكراً ، ولامن تواضعهم رفعة ، ولا من بذلهم مقابل ، لاتعرف ماهو الدافع لمواطني هذه المدينة سيما الخاضعين تحت سطوة الغرائز بأن تتثاقل رؤوسهم الى الأرض ان واجهوا أمراة ، كما إن المواطن هذه الدولة يقف أيام بصفته خادماً ومضيفاً في داره ، ويطلب بدل الشكر ، الإعتذار عن التقصير كل هذا وماخفي لم يجعل المواطن صالحاً فقط ، بل يريد أن يعكس صلاحه في تجليات الأنسنة ،إن هذه التراجيديا لمدينة الحسين (ع) ، تميزت بالنحو الذي جعل قياس مدينةٍ بها شبه مستحيل ، لأن مؤسسها أختلف عن كل باني المدن ، حيثُ أرسى أسسها بتضحيات جسام ، في مشهد فجائعي رهيب ذبحت فيه أخوته وأصحابه وبنيه كالأضاحي إذ لم يسلم الرضيع فيها من الذبـح ، بل جاد بنفسه من أجل تحقيق الإصلاح الذي أخذ طابع الكلاسيكية كونه يمثل كعبة تحررٍ لكل من أراد أن يكسر القيد من معاصمه .. ولم تزل دولة الحسين تستمد واقعيتها من خلود بانيها في الأفاق والأنفس مهما تقادمت العصور.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.