أنا سائِحة

مينا راضي

 

 

 

 

في رحلَتي الأخيرةِ إلى مدينةِ مونتريال الكنَدية، كان هناك دليلٌ سياحي يَقودُني، بيدَ أنني كنتُ تائهةً داخِليًا. كنت أغرَقُ في التيهِ مثلَ حصاةٍ غارقةٍ في لُجِّ البحر. شعَرتُ أنني مُسيَّجةٌ بقَراراتٍ مختلفة، أتأرجَحُ و أتذَبذَبُ بينها كورقةِ شجَرٍ تمتَطي الريِحَ بعَشوائيةٍ مُطلَقة. في ظلِّ كل ذلك الضَياع، كنت أحاولُ التركيزَ على مَعالمِ المدينةِ الأثرية و على أهلها الذين تَدُبُّ فيهم الحياة و يغلبُهم طابِعُ الصخَبِ و العَبَثية. كنت أشعرُ عند الطَوافِ في تلك المدينةِ أنني عدتُ بالزمنِ خطوةً إلى الوراء، أو أن سلسِلةَ اللحَظاتِ تلك قد تمَرَّدَت على خَطِّ الزمنِ الرَتيبِ المُستَقيم، تمامًا كنبَضاتِ الحب المُتمَرِّدةِ على تَخطيطِ القلب. كانت مَلامحُ تلك المدينةِ ترسمُ لوحةً فيكتوريةً جميلة، حيث تمتَزِجُ الحَداثةُ بالعَراقة. تَنبَعِثُ الحياةُ من كل حَدبٍ و صوب، و تتَعالى أصواتُ الناسِ المُتَداخِلةِ مع الموسيقى الفرنسيةِ الصاخِبة. كنتُ في حَيرةٍ شديدةٍ من أمري، أغوصُ في سَيلٍ لامُتناهٍ من الاحتمالات، تتَقاذَفُني الخَياراتُ كالأمواجِ الشَرِسة. فأنا بذلك لا أختلفُ عن كل الشبابِ في سنّي حَديثي التخَرُّج. كنت أشعرُ أنني أصبحتُ فَريسةً للتشَتُّتِ بكُليَّتي. كنتُ أرى المستقبَلَ أمامي على هَيئةِ وحشٍ ضخم، و أحمِلُ الماضي الثقيلَ فوق ظهري، أحملهُ بكل الخَيباتِ و الخياراتِ الخاطئة. يومئذٍ شعَرتُ أن الناسَ من حَولي خَفيفينَ كالريشِ أو الغَيم، أما أنا فثَقيلةٌ كالحجَرِ الجاثِم.

فجأةً عَنَّت في خاطِري فكرةٌ غريبةٌ لكنها لذيذة، رغم أنه ليس للأفكارِ طَعم.  لماذا أقلَق؟ لماذا لا أنفُضُ عني غُبارَ الخوفِ و أجَرِّب؟ المشكلةُ هي أننا نُصَنِّفُ التجارُبَ إما بالنجاحِ أو الفشَل، و نَربِطُها بالنتائِج. لماذا لا نَنظُرُ إلى التَجربةِ على أنها حدَثٌ مُجَرَّدٌ مُستَقِلٌ بذاته لا يَتبَعهُ نجاحٌ أو فشَل؟ عندها قرَّرتُ أن أختارَ، قرَّرتُ أن أختارَ طريقًا يُشبِهُي، يُشبهُ مَلامِحَ روحي و يُحاكي عقليَ غريب الأطوار. قرَّرتُ أن أنخَرِطَ في التجربةِ مثل طفلةٍ صغيرة، أن أجَرِّبَ بكل حَواسي و كَياني لكن دونَ انتِظارِ نتيجة. سألتُ نفسي في تلك اللحظةِ الحاسِمة: ” لماذا لا نعيشُ هذه الحياة على أننا سُيّاح؟” فالسائحُ بطبيعةِ الحالِ يصولُ و يجولُ في المدُنِ دون أن يتَكَبَّدَ عناءَ الاستقرار. إنه يَختَرِقُ الأمكِنةَ و يُراقِبُ بصَمت، دون أن يتَطَبَّعَ بطِباعِ أهلِ المدُنِ التي يَقصِدُها. أريدُ أن أعيشَ هذه الحياةَ كسائِحة، ألا أتعلَّقَ بسببٍ و لا أنتظرَ نتيجة. أريدُ أن أرقُبَ التجاربَ في حياتي كأنها لوحاتٌ تمزجُ ما بين الجمالِ و القَباحة، أن أستَمتِعَ بالتجَوُّلِ في مُتحَفِ الماضي و التَسَكُّعِ في حَناياه دون أن أكابِدَ تَباريحَ المشاعِر. إن فكرةَ العَيشِ كسائِحٍ فاتنةٌ و مُغويةٌ حقًا. عندما قرَّرتُ أن أعيشَ بمبدأِ سائِح، شعَرتُ بخِفّةٍ شديدة، شعرتُ أنني أطفو على هذه الأرض كغَيمةٍ سعيدة، شعرتُ أنني تخلَّيتُ عن أثقالٍ كانت طوالَ تلك السنوات تُثقِلُ كاهِلي، عندها فقط عرَفتُ أنني أصبَحتُ حُرّةً حقًا، عرَفتُ أنني قد بلَغتُ ذُروةَ الحُرية . فأدرَكتُ أن الحياةَ أبسَطُ و أسخَفُ بكثيرٍ مما نَظُن.   

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.