على هامش مهرجان السرد العراقي.. ما هو السرد؟ وما هي أساليبه وهل أعطى الساردون حقهُ؟

أبراهيم قوريالى/ كركوك

 

 

 

يقول أحد المعمرين في كركوك(في الأربعينيات من القرن المنصرم كنّا نرتاد مقاهيَ كركوك من أجل الاستماع الى رجل يسمى( قصة خون) حيث كان يجلس في مكان مرتفع خُصّصَ له ويقوم بسرد قصص ( عنتر وعبلة، ليلى مجنون وغيرهما باسلوب ممتع وشيّق وكان يصف زمان القصة ومكانها بالتفصيل الدقيق ويجعلنا نتفاعل معه ونعيش أجواء القصة بكل جوارحنا على شكل حلقات يومية مع تفننه الرائع في حركات يديه وصوته وكنا نتمنى ان يأتي الليل كي نتابع احداث القصة) انتهى كلام الرجل وانتبهتُ لكلمة ( سرد) واعتقد ان كلمة السارد صفة تنطبق مع كلمة ( قصة خون) ويقال انّ الاخيرة اصلها فارسية معناها ( قارئ القصة) وهو الراوي الذي كان مشهوراً كما قلنا في الأيام الخوالي لنقل احداث رواية او قصة للأخرين والفرق هنا بين السارد (والقصة خون) ان الصوت والحركة قد اختفيا من الأول وحل محلهما صوت القارئ وهو يقرأ ما كتبه السارد وعلى الاخير أن يتفنن في توضيح كل شي يتعلق بقصصه ولا يترك فراغاً يشعر به القارئ ابداً، ومن الطبيعي جداً أن نجد اختلافاً بين سارد وآخر بطريقة سردهما للاحداث التي تحويها كتابهما ( قد تكون بعض الاحداث تاريخية لا بأس ان يقوم سارد ما بصياغتها بشكل حديث وانسيابي دون ان يغير شيئا من جوهر القضية)وعلى السارد انْ يتأكد كيف يستطيع نقل تلك الاحداث الى القارئ دون أن يملّ الاخير عنها ويتخذ خطوات مهمه يسير عليها بنمط هادئ وواضح وصريح ومفهوم للعامة دون تشويش افكار المتلقين وهم ينتمون الو طبقات ثقافية مخلتفة المستوى اذْ كان يروم الوصول الى أكبر عدد من القراء والمتابعين ولا ينسى قلم الناقد الحاذق الذي يبحث عن نقاط الجمال الإبداعي والهفوات الصغيرة، مثال عن السارد الذكي ( نرى نوعين من الأشخاص، شخص يتحدث بحكمة ودراية وتشويق وأسلوب أدبي رفيع بالاعتماد على معلوماته الثقافية والاجتماعية والعلمية والتاريخية يجعلنا نستمع اليه دون كلل او ملل بل نتمنى ان يستمر دون توقف! وشخص آخر نقابله في المجالس العامة والخاصة يتكلم باسلوب لا نعرف بداية او نهاية كلامه ويضعنا في دوامة لا نستطيع الخروج منها وبالأحرى الهروب منها واحياناً كثيرة نتحجج لنغادره غير مأسوف عليه) هذا المثال الحي الذي يصادفنا كثيراً جعلنا نعرف السارد الحذق الذي يجبرنا ان نتابع ابداعاته ( الروايات والقصص) وبتجربتي الشخصية مرات عدة كنت اشعر بعطش وجوع شديدين ولا استطيع التخلي عن الكتاب وأقول ربما بعد هذه الصفحة او تلك ولا افعل ذلك مطلقاً، لماذا؟ لان السارد قد جعلني أسيراً لدى كتابه والاخير لا يتركني وشأني لماذا؟ لانه استخدم أسلوباً شيقاً يحمل صفة التسلسل الهادىء ولغة رائعة وتنسيق رائع للكلمات تلتحم مع بعضها البعض وفي هذا الصدد
(يقول الله في محكم كتابه العزيز ( قدّر في السّد) سورة السبا ١١،
أي احكم صنعتك في نسج الدّروع، ونستنتج من معاني هذه الكلمة العظيمة ان نتحكم في نسج اي شي نعمله) والجدير بالذكر هنا ان تزيفتون تودروف هو من صاغ مصطلح السرد في كتابه عام ١٩٩٦ ( قواعد ديكاميرون) علم السرد وعرّفه بعلم القصة وتطور السرد على يد نقاد ودارسين من امثال ( رولان بارت، جيرار جنيت، جوليا كريستيفا وغيرهم) ونعود الى خصائص النص السردي (ان يمتاز النص السردي) بخصائص عديدة يغلب على النمط السردي مثلاً السرد في الماضي وفي أمور حدثت فعلًا واستخدام الجمل الخبرية وأدوات الربط في النص ويجب ان يحتوي على الظروف المكانية والزمانية ويهتم بعنصر الزمان والمكان وبالوقائع والأحداث الماضية ويعتمد هذا النمط على أساليب الجمال الأدبية كالأساليب البلاغية المختلفة وطرق الكتابة المميزة، وهو ما يسمى بالتركيب وعلى السارد ان يعتمد على السرد الخارجي من خلال ربط أحداث اجتماعية او واقعية تكون مألوفة لدى القارئ حتى يسهل فهمها لديه بشكل صحيح ويعتمد أسلوب السرد الشخصي في إيصال الفكرة إلى القارئ بوضوح يهدف لتحفيز الخيال لديه بحيث يتخيل الأحداث وكأنها حدثت في الواقع ويجب ان يمتاز نصه بالبساطة، ولا يستخدم فيه كلمات معقدة وغامضه يصعب فهمها لدى جمهور القراء وعليه ان يبتعد عن الصور المعقدة لأن هدفه فهم النص واستيعابه بشكل عميق وان يتميز نصه بالحركة فيستطيع الانتقال من حدث لآخر ثم العودة مرة أخرى دون ان يؤثر على مزاج القارئ الذكي ( المسرود له).أنموذجاً في هذا المجال (الروائي العراقي أحمد خلف والتركي عزيز نسين والروسي تولستوي والمصري توفيق الحكيم) فهم يسيرون على هذا النهنج واعتقدُ ان سبب نجاحهم اعتمادهم على الاسلوب الرائع الممتع السهل، وهنا نقطة مهمة يجب ان ينتبه لها السارد الذكي اذ لا يستطيع ان يكون سارداً دون ان يكون هناك مسروداً له فما فائدة (مول كبير) ممتلئ بشتى المواد اذ لم يكن هناك زبائن يأتون من هنا هناك للتضبع منه ومن المؤكد انه سيعلن افلاسه وينطبق هذا ايضاً على السارد فهو بحاجة الى المسرود له من اجل ترويج بضاعته الأدبية وتقع عليه وظائف متعددة منها (الوظيفة السردية) حيث يقوم بالتكلم عن الاحداث وتقديم الشخصيات ويصف الأمكنة والأزمنة بغاية الدقة وينتبه للأشياء المهمة التي قد تخلق فراغاً بينه وبين القارئ وعليه تفسير ما يحدث لشخصياته بوضوح ودون ابهام مع شرح اسبابها ويجب ان يقوم مقام المقيّم لبعض شخصياته على الاقل بطريقة ساخرة لكي يضيف شيئا من الفكاهة او التهكم حسب موقفه الفكري والاخلاقي والاجتماعي والسياسي والقارئ الذكي سيرى ذلك بوضوح وسيستمتع بالقراءة وينتظر من الكاتب كُتُب اخرى وفي هذا المضمار ايضاً يؤكد الاستاذ مجدي كامل المهندس في كتابه ( المصطلحات اللغوية سنة ١٩٨٤
السرد أو القصّ هو استخدام التعليق المكتوب أو المنطوق لنقل قصة الى القراء ويتم نقل السرد بواسطة الراوي وهو شخص معين أو صوت أدبي غير محدد وتم تطويره بواسطة مبتكر القصة، لإيصال المعلومات للجمهور، خاصة حول الحبكة (سلسلة الأحداث) والسرد عنصر مطلوب في كل القصص المكتوبة ( الروايات، القصة القصيرة، القصة، المقالة الثقافية) ووظيفتهُ هي نقل القصة بأكمله دون نقص ومع ذلك يعتبر السرد اختياريًا في معظم تنسيقات سرد القصص) ويتضح من هذا ان السارد يتمتع بحرية اختياراته في ان يكون هو شخصياً راوياً او يختار من هو ضمير غائب او يختار جماعة من ابطال قصته وله الحق ان يقوم بتديل الأدوار بين هولاء جميعاً ويعود في نهاية القصة راوياً مرة اخرى (الراوي المتناوب) واعتقد بان هذا الأسلوب الصعب بعض الشيء قد يضع القارئ في مواقف محرجة عدا الذين لهم باع طويل في هذا المضمار ( الكُتّاب، مثقفي الخط الاول، النقاد وغيرهم) وفي الختام لا بأس ان نلقي نظرة على ما كتبه الناقد الدكتور صلاح فضل في إطار تقديمه لكتابه “أساليب السرد في الرواية العربية” رؤية تقوم على فرضية أولية بوجود ثلاثة أساليب رئيسة في السرد العربي خاصة هي:
الأسلوب الدرامي: رأيناه في رواية ( يوم مقتل الزعيم، نجيب محفوظ)، ( الولاعة، لحنا مينا)،( خالتي صفية والدير، لبهاء طاهر).
والأسلوب الغنائي: رأيناه في ( الآن هنا لعبدالرحمن منيف)، ( هاتف المغيب، لجمال الغيطاني)،( تجربة في العشق، لطاهر وطار)،( كناسة الدكانة، ليحيى حقي)، ( سرايا بنت الغول، لأميل حبيبي).
والأسلوب السينمائي: رايناه في ( وردية ليل، لابراهيم اصلان)، (ذات، لصنع الله إبراهيم).
واعتبر صلاح فضل أن السرديات الحديثة من الدوائر اللافتة التـي تقترب عندها جملة البحوث النقدية من منطق الخطاب النقدي بمناهجه الحركية المضبوطة. وقال (استطاعت هذه السرديات في العقود الثلاثة الماضية فحسب أن تؤسس معرفة متنامية ودقيقة بالنصوص السردية في تجلياتها المختلفة، حتى غدت أنموذجاً مشجعا لما يسمى بعلـم الأدب في تشكله المتطور الدؤوب والمتجدد بقدر ما ينبثق في المخيلة الإنسانية من إبداع
وأضاف ازدهرت البحوث التي تدور حول طبيعة المنظور السردي وأشكال الرؤية القصصية، وعمليات تكوين بؤرة السرد ومستوياتها وعناصر توجيهها في تعانق متناغم مع البحوث التي تحلل تعدد الأصوات وعلاقتها بنوعية الضمائر ولغة الخطاب الروائي في حالات العرض والسرد، وارتباطها بقضايا مستويات الزمن القولي والتاريخي وما ينجم عن تضافرها من إيقاعات متفاوتة وأساليب عديدة. 
وكما درست أشكال الصيغ والكيفيات المختلفة لأنماط السرد وعمليات التركيب في أجرومية الرواية ووظائفها المختلفة، مما عرضنا له بالتفصيل في دراستنا المحدثة عن”بلاغة الخطـاب وعلم النص” بما يعتبر تجاوز المنهج التحليل الفلسفي والبنيـوي ويمهد لمقاربة عملية نصية تطبيقية بعد عـرض المحددات النظرية الشاملة. ويهمنا الإشارة في هذا الصدد إلى أن المنظور السيمولوجي والنصي المحدث كان تنمية للاتجاهات السابقة عليه، وأنه أفاد بصفة خاصة من النقد المخصص للفنون البصرية الحركية – خاصة السينما – في ضبط مصطلحاته وقياس مسافاته وتحديد التقنيات الموظفة فيه ولا توجد حدود فاصلة وقاطعة بين هذه الاساليب اذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان ويختلف تقدير الاهمية المهيمنة من قراءة نقدية الى اخرى مما يجعل التصنيف غير مانع بالمفهوم المنطقي).
وانا شخصياً اعتقد بان كُتّاب الروايات العراقيين بصورة عامة اتبعوا اسلوباً خاصاً بهم (بالاضافة الى الاساليب التي صنفها الدكتور صلاح البحر)يحمل نكهة حوار عراقي لطيف من خلال ذاكرة السارد الذي هو من عامة الشعب، أنموذجاً، يوسف الصائغ، خضير عبدالامير، أحمد خلف،فاضل العزاوي،عبدالخالق الركابي، شوقي كريم، ميسلون هادي، زهدي الداودي، طه حامد الشبيب، عالية الطالب، شوقي كريم، حسن البحّار، عمران بندر، جلال بولات، سعدي يوسف، قاسم حسيني، وحيدة البرزنجي، نجم الدين بايراقدار، وغيرهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.